١١.١.٠٩

هكذا

كُلُّ هذا الدخان
في رئتيَّ
وغرفتي
...
كُلُّ هذه القسوة
في قلبك
في العالم
...
هكذا يمرُّ الشتاءُ
...
أطفالٌ يتساقطونَ
وأمطارٌ
...
هكذا
مَعَ أوراقِ أيَّامِنا

قوس قزح

إلى الأطفال الخائفين... هناك... من الأمطار والموت

١.١.٠٩

طوفة سوزان

فاطمة ناعوت - جريدة "الوقت" 2008/1/1

"تحاولُ دائما اختراعَ جغرافياتٍ، لا يحتاجُ السَّفرُ إليها إلى جواز سَفر''. جملةٌ مكتوبة أسفلَ لوحةٍ تمثّل طفلةً تتطلع بوجهها نحو السماء، وبيدها تمسكُ خيطا في نهايته المُحلّقةِ في الأفق طائرةٌ ورقيةٌ لا تعرفُ مكانا لها فوق الأرض. محلقةٌ أبدا كعينيْ البنتِ التي تقبض على مِقْودِها. الجملةُ الشعرية تلك كتبتها طفلةٌ أسفل لوحتها التي تصفُ بها صديقتها الطفلةَ أيضا. الطفلةُ الأولى/ الراسمة: شاعرةٌ وفنانةٌ لبنانية تلعبُ باللون والحرف، فتخلق عبرهما عالما فانتازيا لا يراه سواها، وقراؤها الذين يهربون إلى عالمِها كلما دهمهم واقعُنا المرُّ بغيضٍ من فيضِ جفافه. والطفلةُ الثانية/ المرسومة: شاعرةٌ كويتية ترسم صورَها بالكلمات، وتخلق من ورق الحلم عالما يجتهدُ أن يكون طيبا، ووطنا يحاولُ أن يحتضن بنيه.
دخلتُ مكتبَها بجريدة ''القبس''. وفيما نتعانقُ بعد طول غياب، لفتني جدارٌ يحتضن مكتبَها بحنوٍّ. جدارٌ تكسوه الألوانُ واللوحاتُ التي تطفرُ طفولةً وبهجةً وشِعرا. في لوحة نجد طفلةً بجديلتين سوداوين لها عينان سوداوان ترقبان العالمَ بقلق، وفي لوحة أخرى تُطرق العينان نحو الأرض في خَفر، أو أسى، أو كليهما معا، ثم هناك طفلةٌ تطير بين ورقات شجر، وفي أخرى وجهُ طفلة في مركز مدارات أفلاك، أو ربما في مركز قرص الشمس ذاته، ثم طفلةٌ واسعةُ العينين تضع كفَّها تحت خدِّها وتفكر، ولوحات أخرى كثيرة جميلة. تحار، لو أتيح لك أن تسرقَ إحداها وتركض، أيها تسرق!
أعرفُ هذه الريشة. لِمَن؟ خمنتُ الاسمَ. وقررتُ، تأدّبًا، أن أؤجل تساؤلاتي حول هذا الجدار الغريب حتى نهاية اللقاء. لكن فضولي وشغفي لم يسمحا لي إلا بسؤالها رأسا: ما هذه اللوحات الجميلة؟ فأجابت بفرح طفوليّ يليق بشاعرة: دي ''طوفة سوزان''! سألتها: وما هي الطوفة؟ فقالت: طوفة بالدارجة الكويتية تعني: جدار. لم أسألها ومَن تكون سوزان؟ فقد عرفت أن تخميني لم يخب. وصدق حدسي. فسرعان ما أخبرتني سعدية مفرَّح أن اللوحات للشاعرة اللبنانية سوزان عليوان.
أعرفُ ريشة سوزان جيدا. وأعرفُ كيف تقدر هذه الريشةُ أن تغمسَ نفسَها في اللونِ ثم تضرب الورق الأبيضَ فتأذنُ لعالم أن يتشكّل، ولكائناتٍ أن تُخلَق، ولأرواح أن تنبثق. كذلك أعرف سعدية مفرّح، كيف تقدرُ روحُها أن تأسرَ، ووجهُها أن يجعلَ شاعرا أو فنانا أن يستلهمه في قصيدة أو في لوحة، أو في محبة لا تنتهي.
قالت لي وابتسامةُ رضا تُشرق وجهَها الخليجي الجميل، مشيرةً بإصبعها نحو ألوان سوزان التي تغمر المكان بين خيوط الشمس المنسربة من النافذة: هذا هو الجدار الذي يحمي ظهري بحنانه وألوانه. تعرفين سوزان؟ سألتني. قلتُ: قرأتُها وأحببتُ عالمَها، لكنني لم ألتقها. فقالت: هي ''كائنٌ اسمُه الحب''! في إشارة إلى عنوان أحد دواوين عليوان.
أنْ يرسمَ شاعرٌ شاعرًا، فذلك عندي مُربّعُ الجمال المطلق. ضلعٌ: الشاعرُ الراسمُ، وضلعٌ: الشاعرً المرسومُ، وضلعٌ ثالثٌ: هو عينُ الشاعرِ الراسم التي تنظرُ ''في''، ولا تنظر ''إلى''، الشاعر المرسوم، وأما الضلعُ الرابع: فهو العمقُ الخبيء في الشاعر المرسوم، فيما يشبه ''قُدس الأقداس'' في هياكل ملوك الفراعنة، ولا يعطي مفتاحَه لأحد، لأنه يحوي كنوزه ومخطوطاته مما لا يُقدّر بمال. سوى أن عينَ الشاعر الراسم تقدرُ أن تفكَّ تعويذةَ الدخول وتدخل، لترى، ثم ترسم ما رأته، مما استعصى على البشر رؤيته. فماذا لو كان هذان الشاعران امرأتين شاعرتين؟ وقتها يكتملُ الجمالُ تامًا غيرَ منقوص. كلتاهما شاعرتان تطمحان إلى عالم شفيف لا يجرحه البشرُ بغلظتهم. كلتاهما تحلمان بأجنحةٍ عوضا عن السيقان، وغيماتٍ عوضا عن أسفلت الشوارع. كلتاهما تبحثان عن وطنٍ لا يقسو. والأوطانُ طيبةٌ دائما، لكن من يسكنون الأوطانَ ليسوا دائما طيبين.
تقول سوزان عليوان، في ديوانها مصباحٌ كفيف 2002: ''لا أحملُ إلاَّ عينيَّ/ لأرى/ لأتلمَّسَ في الظلامِ كائناتِهِ/ أشعلُ قلبي/ مصباحًا كفيفًا".
والشاعرُ لا يحتاج سوى هاتين العينين، وحدهما، لكي يرى ما لا يراه الناس، ثم يرفض، ثم يخلق.
وتقول سعدية مفرّح في ديوان ''إثم البلاد'': ''قلتُ/ سآوي إلى جبلٍ من كلام/ ليعصمَ ضعفي/ وقالتْ بلادي في الفلك:/ هيتَ لك/ ورحتُ أغنّي".
سعدية مفرّح، تلك الشاعرةُ العذبة، لم تبرحِ الكويتَ أبدا، رغم أن بلادَ الدنيا تتمنى استضافتَها. وعلى رأسها مصرُ التي طبعتْ لها قبل أيام مختاراتٍ شعريةً بعنوان: ''قبرٌ بنافذة واحدة''، عن سلسلة آفاق عربية بالمجلس الأعلى لقصور الثقافة. ولأنها لم تسافر، فقد جابت سوزان العالم بدلا عنها ورسمته من أجلها. لذلك سنجد في واحدة من أجمل لوحات ''طوفة سوزان'': نصفَ بنتٍ ونصفَ ولدٍ، يفصل بينهما بحرٌ فوقه جسرٌ يتوسطُه قرصُ الشمس القاني، وفي الخلفية يظهرُ برجُ إيفيل، ومقهى باريس، وجاليري لافاييت، ثم أجمل شوارع الدنيا: الشانزلزيه، الذي اشتقَّ اسمَه من حقول الفردوس، المكان الذي رسمته الميثولوجيا الإغريقية بوصفه مكانَ الموعودين بالنعيم.