١٤.١.١٢

حبر على سحابة - ما يشبه الحنين... إلى المستقبل - مجلة "الصدى" 2012/1/1

عينان على سقف، قدمان على عتبة. خطوة نحو الداخل. هكذا الكلمة: مكان.
بناء بالمعنى. بناء هادم لفكرة الحجر والجدران. تحيّة للنسمة، بيدٍ بوردةٍ تمتدّ نحو نجمة بعيدة. تمجيد للنور والهواء.
كما لو شجرة. نصفها أرض، ونصفها الآخر سماء. الكتابة جذور. الكتابة أجنحة.
كما لو أنّه حرفنا الأوّل، كلّ حرف نخطّه حبرًا على ورق، أو طَرقًا خفيفًا على مفاتيح كيبورد. وكأنّنا، بالكتابة، لا نكفّ عن الميلاد، عن محاولة إلغاء الأبواب المغلقة.
أفكّر في الرموز المحفورة في صخر الكهوف منذ ملايين السنين. إرث البشريّة الأعظم: عظام الأصوات التي أوصلتنا إلى كلماتنا.
هل يعي العصفور حجم الرمز في صوته الصغير؟
هل تعرف الأغنية، كم هي نهر، بقدر ما هي غيمة عابرة؟

كنت على عتبة العشرين من عمري، حين دعيت إلى كتابة أوّل زاوية خاصّة بي في مجلّة. كنت حينها طالبة جامعيّة، وصاحبة ديوان وحيد، وكانت رهبة كتابة الزاوية الأسبوعيّة هائلة! وكأنّ كلّ مسؤوليّة الكون قد ألقيت دفعة واحدة على كتفيّ. كأنّني في كفيّ أحمل مصباحًا لا أعرف ماذا أفعل به. في الروح والرأس، ملايين الأحلام والأفكار... لكنّ البياض، شأن كلّ البدايات، مساحة تربك الظلّ. أذكر أنّني لم أنم في تلك الليلة، من الحماس، من هول الحريّة، وأذكر أنّني فجرًا، جلست إلى مكتبي الخشبيّ الأسود، أصغي إلى عصافير شجرة طيّبة وثرثارة، مجاورة لغرفتي، وبقلمي أنقل ما تقوله تلك الكائنات. هكذا كتبت يومها، بروح تنصت إلى ما يعنيها من ضجيج العالم وتحاول تكريسه بالكلمات، وهكذا أكتب الآن. إذ أنّ بعد عقدين من الزمن تقريبًا، وبعد دراستي للصحافة وإصداري لمجموعة من الدواوين، تكرّرت الدعوة... وها أنا على عتبة الرهبة ذاتها! على أمل جسر، أقطع نصفه بالكتابة في هذه الصفحة، ويقطع القارئ نصفه الآخر، لنلتقي.
الكلمة محاولة وصل. الكلمة وردة ناصعة بين يدين. تبادل لا يخضع لقانون المقايضة، بقدر ما يفرض قانون الحوار. الحوار المفتوح بين الأرواح والتجارب. الحوار النوافذ والآفاق. الحوار الحالم بأن تصبح الكلمات أفعالاً، وتصبح الحياة ما نستحقّه من الحياة.
في هذه الكتابة التي تشبه دوزنة الأوتار (بعد انقطاع سنوات عن الكتابة الأسبوعيّة)، ما يشبه الحنين. إلى العزف عن العزلة، والعزف على قيثارة لا يخلو من خشب شجرتها قلب. هي رغبة الإنسان الغريزيّة في الغناء ضدّ الفناء. ضدّ الدمعة والدبّابة. ضدّ الخيبة والقضبان. ضدّ الضجر. مع كلّ ما يشبهنا من زهر وفراشات وشموس شروق وبشر.
أعود حنينًا إلى روحي في تفتّحها، إلى براعم وشرانق أحلامي، إلى ذلك المكتب المزدحم بالكتب والأوراق والأماني الملوّنة، وإلى عصافير صباحيّة غشّشتني –يا لكرمها وشقاوتها!- في امتحاني الأوّل.
تسلّل بعض الشيب إلى شَعري، والكثير منه إلى داخل رأسي، ولم يعد قميصي القطنيّ مزيّنًا بشخوص الرسوم المتحرّكة كما في الماضي. العالم نفسه تغيّر. لم يعد العالم الذي فتحت عليه دهشة عينيّ، وفتحت له كلّ شبابيك قلبي وشبابي. جاءت الألفيّة الثالثة، وجاءت حروب. جاءت نوافذ ومرايا الإنترنت، وجاءت الثورة!
قطارات كثيرة على عمري، على أعمارنا، مرّت. بعضها حمل الخراب، وبعضها الهدايا التي لم نكن نتخيّلها ستصل، وتكون من نصيبنا.
لا أخفي عليكم: في أعماقي ابتسامة. لقائي بقارئي لقاء صديقين قديمين وحميمين، لقاء شبيهين على جسر، استكمال لحوار ومشوار، والحنين الذي في كلماتي هذه حنين إلى المستقبل، وليس بكاء على أطلال.
الكلمة لا تلتفت إلى الوراء، وإن كانت استدارة الأرض، التي هي طاحونة هواء، وهي أيضًا ساقية دم، تعيدها إلى مكانها.
شكرًا لمجلّة "الصدى" على استضافتها لي بين صفحاتها وكوكبة كتّابها. شكرًا لمن يقرأ مقالي الأوّل هنا الآن، سواء كان صديقًا قديمًا لحرفي أو قارئًا جديدًا سيصبح صديقي. وشكرًا للعصافير التي ما زالت، في وصفة سحريّة، وبشهامة أجنحة، تعينني على تخليص بعض الضوء من الكثير من الظلام.

هناك تعليقان (٢):

معتز يقول...

مقال رائع .. سوزان
..
لنطالع عن قرب أراء شاعرة حينما تكتب بإستفاضه ..
سأتطلع أسبوعياً للمتابعه ..

سوزان عليوان يقول...

شكرًا معتزّ العزيز

أنشأت صفحة خاصّة بالزاوية في موقعي
وإليك رابطها:
http://www.suzanne-alaywan.com/Column.htm